فصل: ذكر ملك مرداويج أصبهان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ما فعله لشكري من المخالفة:

كان لشكري الديلميُّ من أصحاب أسفار، واستأمن إلى الخليفة، فلمّا انهزم هارون بن غريب من مرداويج سار معه إلى قَرْمِيسين، وأقام هارون بها، واستمدّ المقتدر ليعاود محاربة مرداويج وسيّر هارون لشكري هذا إلى نهاوند لحمل مالٍ بها إليه، فلمّا صار لشكري بنَهاوند، ورأى غنى أهلها طمع فيهم، وصادرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، واستخرجها في مدّة أُسبوع، وجنّد بها جُنداً، ثمّ مضى إلى أصبهان هارباً من هارون في الجند الذين انضمّوا إليه في جُمادى الآخرة.
وكان الوالي على أصبهان حينئذ أحمد بن كَيْغَلغ، وذلك قبل استيلاء مرداويج عليها، فخرج إليه أحمد فحاربه، فانهزم أحمد هزيمة قبيحة، وملك لشكري أصبهان، ودخل أصحابه إليها، فنزلوا في الدور والخانات وغيرها ولم يدخل لكري معهم؛ ولّما انهزم أحمد نجا إلى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارساً، وركب لشكري يطوف بسُور أصبهان من ظاهره، فنظر إلى أحمد في جماعته، فسأل عنه فقيل: لا شكّ أنه من أصحاب أحمد ابن كَيْغَلغ، فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم، وكانوا عدّة يسيرة، فلمّا قرب منهم تعارفوا، فاقتتلوا، فقُتل لشكري، قتله أحمد بن كَيْغَلغ، ضربه بالسيف على رأسهن فقدّ المغفر والخّوذة، ونزل السيف حتّى خالط دماغه، فسقط ميّتاً.
وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين؛ فلمّا قُتل لشكري انهزم مَن معه، فدخلوا أصبهان، وأعلموا أصحابهم، فهربوا على وجوههم، وتركوا أثقالهم وأكثر رحالهم، ودخل أحمد إلى أصبهان، وكان هذا قبل استيلاء مرداويج على أصبهان؛ وكان هذا من الفتح الظريف، وكان جزاؤه أن صُرف عن أصبهان، ووليَ عليها المظفَّر بن ياقوت.

.ذكر ملك مرداويج أصبهان:

ثمّ أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصبهان، فملكوها واستولوا عليها، وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف العِجليّ، والبساتين، فسار مرداويج إليها فنزلها وهو في أربعين ألفاً، وقيل خمسين ألفاً، وأرسل جمعاً آخر إلى الأهواز، فاستولوا عليها وعلى خوزستان، وجبوا أموال هذه البلاد والنواحي، وقسمها في أصحابه، وجمع منها الكثير فاذخره.
ثمّ إنّه أرسل إلى المقتدر رسولاً يقرّر على نفسه مالاً على هذه البلاد كلّها، ونزل للمقتدر عن هَمذان وماه الكوفة، فأجابه المقتدر إلى ذلك، وقوطع على مائتَيْ ألف دينار كلّ سنة.

.ذكر عزل الكَلْوَذانيّ ووزارة الحسين بن القاسم:

في هذه السنة عُزل أبو القاسم الكّلْوذانيُّ عن وزارة الخليفة ووزر الحسين ابن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب.
وكان سبب ذلك أنّه كان ببغداد إنسان يُعرف بالدانياليّ، وكان زرّاقاً، ذكيّاً محتالاً، وكان يعتّق الكاغد، ويكتب فيه بخطّة ما يشبه الخطّ العتيق، ويذكر فيه إشارات ورموزاً يودعها أسماء أقوام من أرباب الدولة، فيحصل له بذلك رفق كثير.
فمن جملة ما فعله أنّه وضع في جملة كتاب: ميم ميم ميم، يكون منه كذا وكذا، وأحضره عند مفلح، وقال: هذا كناية عنك، فإنّك مفلح مولى المقتدى، وذكر له علامات تدلّ عليه، فأغناه، فتوصّل الحسين بن القاسم معه، حتّى جعل اسمه في كتاب وضعه، وعتّقه، وذكر فيه علامة وجهه، وما فيه من الآثار، ويقول إنّه يزر للخليفة الثامن عشر من خلفاء بني العبّاس، وتستقيم الأمور على يدَيْه، ويقهر الأعادي، وتتعمّر الدنيا في أيّامه، وجعل هذا كلّه في جملة كتاب ذكر فيه حوادث قد وقعت، وأشياء لم تقع بعد، ونسب ذلك إلى دانيال، وعتّق الكتاب وأخذه وقرأه على مفلح، فلمّا رأى ذلك أخذ الكتاب وأحضره عنده المقتدر وقال له: أتعرف في الكُتّاب من هو بهذه الصفة؟ فقال: ما أعرفه إلاّ الحسين بن القاسم؛ فقال: صدقت وإنّ قلبي ليميل إليه، فإن جاءك منه رسول برقعة فاعرضها عليّ، واكتم حاله ولا تطلع على أمره أحداً.
وخرج مفلح إلى الدانياليّ فسأله: هل تعرف أحداً من الكتّاب بهذه الصفة؟ فقال: لا أعرف أحداً؛ قال: فمن أين وصل إليك هذا الكتاب؟ فقال: من أبي، وهو ورثه من آبائه، وهو من ملاحم دانيال، عليه السلام؛ فأعاد ذلك على المقتدر، فقبله، فعرّف الدانياليُّ ذلك الحسين بن القاسم، فلمّا أعلمه كتب رقعة إلى مفلح، فأوصلها إلى المقتدر، ووعده الجميل، وأمره بطلب الوزارة وإصلاح مؤنس الخادم، فكان ذلك من أعظم الأسباب في وزارته مع كثرة الكارهين له.
ثمّ اتفق أنّ الكَلْوذانيَّ عمل حِسْبةً بما يحتاج إليه من النفقات، وعليها خطّ أصحاب الديوان، فبقي محتاجاً إلى سبعمائة ألف دينار، وعرضها على المقتدر، وقال: ليس لهذه جهة إلاّ ما يطلقه أمير المؤمنين لأنفقه، فعظم ذلك على المقتدر.
وكتب الحسين بن القاسم لّما بلغه ذلك يضمن جميع النفقات، ولا يطالبه بشيء من بيت المال، وضمن أنّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت المال، فعُرضت رقعته على الكَلْوذانيّ فاستقال، وأذن في وزارة الحسين، ومضى الحسين إلى بُلَيق، وضمن له مالاً ليصلح له قلب مؤنس، ففعل، فعُزل الكَلْوذانيُّ في رمضان، وتولّى الحسين الوزارة لليلتَينْ بقيتا من رمضان أيضاً، وكانت ولاية الكَلْوذانيّ شهرَيْن وثلاثة أيّام، واختصّ بالحسين بنو البَرِيديّ وابنُ قَرابة، وشرط أن لا يطلع معه عليّ بن عيسى، فأُجيب إلى ذلك، وشرع في إخراجه من بغداد، فأُجيب إلى ذلك، فأُخرج إلى الصافية.

.ذكر تأكّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر:

في هذه السنة، في ذي الحجّة، تجدّدت الوحشة بين مؤنس والمقتدر، حتى آل ذلك إلى قتل المقتدر.
وكان سببها ما ذكرنا أوّلاً في غير موضع، فلمّا كان الآن بلغ مؤنساً أنّ الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القوّاد في التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس، وبلغ الحسين أنّ مؤنساً قد تنكّر له، وأنّه يريد أن يكبس داره ليلاً ويقبض عليه، فتنقّل في عدة مواضع، وكان لا يحضر داره إلاّ بُكرة، ثمّ إنّه انتقل إلى داره الخلافة، فطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته، فأجاب إلى عزله ولم يصادره، وأمر الحسين بلزوم بيته، فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي في وزارته.
وأوقع الحسين عند المقتدر أنّ مؤنساً يريد أخذ ولده أبي العبّاس، وهو الراضي، من داره بالمخرّم، والمسير به إلى الشام، والبيعة له، فردّه المقتدر إلى دار الخلافة، فعلم ذلك أبو العبّاس؛ فلمّا أفضت الخلافة إليه فعل بالحسين ما نذكره.
وكتب الحسن إلى هارون، وهو بدير العاقول، بعد انهزامه من مرداويج، ليتقدمه إلى بغداد، وكتب إلى محمّد بن ياقوت، وهو بالأهواز، يأمره بالإسراع إلى بغداد، فزاد استشعار مؤنس، وصح عنده أنّ الحسين يسعى في التدبير عليه، وسنذكر تمام أمره سنة عشرين وثلاثمائة.

.ذكر الحروب بين المسلمين والروم:

في هذه السنة، في ربيع الأوّل، غزا ثمل والي طَرَسُوس بلاد الروم، فعبر نهراً، ونزل عليهم ثلجٌ إلى صدور الخيل، وأتاهم جمع كثير من الروم، فواقعوهم، فنصر الله المسلمين، فقتلوا من الروم ستّمائة، وأسروا نحواً من ثلاثة آلاف، وغنموا من الذهب والفضّة والديباج وغيره شيئاً كثيراً.
وفيها في رجب عاد ثمل إلى طَرَسُوس، ودخل بلاد الروم صائفة في جمع كثير من الفارس والراجل، فبلغوا عَمّورية، وكان قد تجمّع إليها كثير من الروم، ففارقوها لّما سمعوا خبر ثمل، ودخلها المسلمون، فوجدوا فيها من الأمتعة والطعام شيئاً فأخذوه، وأحرقوا ما كانوا عمّروه منها، وأوغلوا في بلاد الروم ينهبون، ويقتلون ويخرّبون، حتى بلغوا أنقِرَة، وهي التي تسمّى الآن أنكورية، وعادوا سالمين لم يلقوا كيداً، فبلغت قيمة السبي مائة ألف دينار وستّة وثلاثين ألف دينار، وكان وصولهم إلى طَرَسُوس آخر رمضان.
وفيها كاتب ابن الدَّيرانيّ وغيره من الأرمن، وهم بأطراف أرمينية، الروم، وحثّوهم على قصد بلاد الإسلام، ووعدوهم النصرة، فسارت الروم في خلق كثير، فخرّبوا بَزكرى وبلاد خلاط وما جاورها، وقُتل من المسلمين خلق كثير، وأسروا كثيراً منهم، فبلغ خبرهم مُفلحاً، غلام يوسف بن أبي الساج، وهو والي أذربيجان، فسار في عسكر كبير، وتبعه كثير من المتطوّعة إلى أرمينية، فوصلها في رمضان، وقصد بلد ابن الدَّيرانيّ ومن وافقه لحربه، وقتل أهله، ونهب أموالهم، وتحصّن ابن الدًَّيرانيّ بقلعة له، وبالغ الناس في كثرة القتلى من الأرمن، حتّى قيل إنّهم كانوا مائة ألف قتيل، والله أعلم.
وسارت عساكر الروم إلى سُمَيساط فحصروها، فاستصرخ أهلها بسعيد بن حَمدان، وكان المقتدر قد ولاّه الموصل وديار ربيعة، وشرط عليه غزو الروم، وأن يستنقذ مَلَطْية منهم، وكان أهلها قد ضعفوا، فصالحوا الروم، وسلّموا مفاتيح البلد إليهم، فحكموا على المسلمين، فلمّا جاء رسول أهل سُمَيساط إلى سعيد بن حمدان تجهّز وسار إليهم مسرعاً، فوصل وقد كاد الروم يفتحونها، فلمّا قاربهم هربوا منه، وسار منها إلى مَلَطية وبها جمع من الروم ومن عسكر مليح الأرمنيّ ومعهم بنْيّ بن نفيس، صاحب المقتدر، وكان قد تنصّر، وهو مع الروم، فلمّا أحسّوا بإقبال سعيد خرجوا منها، وخافوا أن يأتيهم سعيد في عسكره من خارج المدينة، ويثور أهلها بهم فيهلكوا، ففارقوها.
ودخلها سعيد ثمّ استخلف عليها أميراً، وعاد عنها، فدخل بلد الروم غازياً في شوّال، وقدّم بين يديه سَريّتَيْن فقتلتا من الروم خلقاً كثيراً قبل دخوله إليها.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة، في شوّال، جاء إلى تكريت سيل كبير من المطر نزل في البرّ، فغرق منها أربعمائة دار ودكّان، وارتفع الماء في أسواقها أربعة عشر شبراً، وغرق خلق كثير من الناس ودُفن المسلمون والنصارى مجتمعين لا يُعرف بعضهم من بعض.
وفيها هاجت بالموصل ريح شديد فيها حمرة شديدة، ثمّ اسودّت حتّى لا يعرف الإنسان صاحبه، وظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت، ثمّ جاء الله تعالى بمطر فكشف ذلك.
وفيها توفّي أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخيُّ في شعبان، وهو من متكلّمي المعتزلة البغداديّين. ثم دخلت:

.سنة عشرين وثلاثمائة:

.ذكر مسير مؤنس إلى الموصل:

في هذه السنة، في المحرّم، سار مؤنس المظفَّر إلى الموصل مغاضباً للمقتدر.
وسبب مسيره أنّه لّما صحّ عنده إرسال الوزير الحسين بن القاسم إلى هارون ابن غريب ومحمّد بن ياقوت يستحضرهما، زاد استيحاشه، ثم سمع بأنّ الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجريّة في دار الخليفة، وقد اتّفق فيهم، وأنَّ هارون بن غريب قد قرب من بغداد، فأظهر الغضب، وسار نحو الموصل ووجّه خادمه بُشرى برسالة إلى المقتدر، فسأله الحسين عن الرسالة، فقال: لا أذكرها إلاّ لأمير المؤمنين؛ فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر ما معه من الرسالة للوزرن فامتنع، وقال: ما أمرني صاحبي بهذا؛ فسبّه الوزير، وشتم صاحبه، وأمر بضربه، وصادره بثلاثمائة ألف دينار، وأخذ خطّه بها، وحبسه ونهب داره.
فلمّا بلغ مؤنساً ما جرى على خادمه، وهو ينتظر أن يطيّب المقتدر قلبه، ويعيده، فلمّا علم ذلك سار نحو الموصل ومعه جميع قُوّاده، فكتب الحسين إلى القوّاد والغلمان يأمرهم بالرجوع إلى بغداد، فعاد جماعة، وسار مؤنس نحو الموصل في أصحابه ومماليكه، ومعه من الساجيّة ثماني مائة رجل، وتقدّم الوزير بقبض إقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك مَن معه، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وتمكّن من الوزارة، وولّى وعزل.
وكان فيمن تولّى أبو يوسف يعقوب بن محمّد البريديُّ، ولاّه الوزر البصرة وجميع أعمالها بمبلغ لا يفي بالنفقات على البصرة وما يتعلّق بها، بل فضل لأبي يوسف مقدار ثلاثين ألف دينار أحاله الوزير بها، فلّما علم ذلك الفضل بن جعفر بن محمّد بن الفرات استدرك على أبي يوسف، وأظهر له الغلط في الضمان، وأنّه لا يمضيه، فأجاب إلى أن يقوم بنفقات البصرة، ويحمل إلى بيت المال كلّ سنة ثمانين ألف دينار، وانتهى ذلك إلى المقتدر، فحسُن موقعه عنده، فقصده الوزير، فاستتر، وسعى بالوزير إلى المقتدر إلى أن أفسد حاله.

.ذكر عزل الحسين عن الوزارة:

وفيها عُزل الحسين بن القاسم عن الوزارة. وسبب ذلك أنّه ضاقت عليه الأموال، وكثرت الإخراجات، فاستسلف في هذه السنة جملة وافرة أخرجها في سنة تسع عشرة، فأنهى هارون بن غريب ذلك إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيبيّ، فلمّا تولّى معه نظر في أعماله، فرآه قد عمل حِسبة إلى المقتدر ليس فيها عليه وجه، وموّه وأظهر ذلك للمقتدر، فأمر بجمع الكتّاب وكشف الحال، فحضروا، واعترفوا بصدق الخصيبيّ بذلك، وقابلوا الوزير بذلك، فقُبض عليه في شهر ربيع الآخر، وكانت وزارته سبعة أشهر، واستوزر المقتدر أبا الفتح الفضل بن جعفر، وسلّم إليه الحسين، فلم يؤاخذه بإساءتهِ.

.ذكر استيلاء مؤنس على الموصل:

قد ذكرنا مسير مؤنس إلى الموصل فلمّا سمع الحسين الوزير بمسيره كتب إلى سعيد وداود ابنَيْ حمدان، وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان، يأمرهم بمحاربة مؤنس، وصدّه عن الموصل.
وكان مؤنس كتب في طريقه إلى رؤساء العرب يستدعيهم، ويبذل لهم الأموال والخِلع، ويقول لهم: إنّ الخليفة قد ولاّه الموصل وديار ربيعة.
واجتمع بنو حمدان على محاربة مؤنس، إلاّ داود بن حمدان فإنّه امتنع من ذلك لإحسان مؤنس إليه، فإنّه كان قد أخذه بعد أبيه، وربّاه في حجره، أحسن إليه إحساناً عظيماً، فلمّا امتنع من محاربته لم يزل به إخوته حتّى وافقهم على ذلك، وذكروا له إساءة الحسين وأبي الهيجاء ابنَيْ حمدان إلى المقتدر مرّةً بعد مرّة، وأنّهم يريدون أن يغسلوا تلك السيّئة، ولّما أجابهم قال لهم: والله إنّكم لتحملونني على البغي وكفران الإحسان، وما آمن أن يجيئني سهم عائر فيقع في نحري فيقتلني؛ فلمّا التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله.
وكان مؤنس إذا قيل له: إنّ داود عازم على قتالك، ينكره ويقول: كيف يقاتلني وقد أخذتُه طفلاً وربّيته في حجري! ولّما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس، واجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفاً، والتقوا واقتتلوا، فانهزم بنو حمدان، ولم يُقتل منهم غير داود، وكان يلقّب بالمجفجف وفيه يقول بعض الشعراء وقد هجا أميراً:
لو كنتَ في ألف ألف كلّهم بطلٌ ** مِثل المُجَفْجَفِ داود بن حمدانِ

وتحتكَ الريحُ تجري حيثُ تأمرُها، ** وفي يمينك سيفَ غيرُ خَوَّان

لكنتَ أوّل فَرّارٍ إلى عَدَنٍ ** إذا تحرّك سيفٌ من خُراسانِ

وكان داود هذا من أشجع الناس، ودخل مؤنس الموصل ثالث صفر، واستولى على أموال بني حمدان وديارهم، فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد، والشام، ومصر، من أصناف الناس لإحسانه الذي كان إليهم، وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان، فصار معه، وأقام بالموصل تسعة أعر، وعزم على الانحدار إلى بغداد.

.ذكر قتل المقتدر:

لّما اجتمعت العساكر على مؤنس بالموصل قالوا له: اذهبْ بنا إلى الخليفة، فإنا أنصفنا، وأجرى أرزاقنا، وإلاّ قاتلناه؛ فانحدر مؤنس من الموصل في شوّال، وبلغ خبره جند بغداد، فشغبوا وطلبوا أرزاقهم، ففرّق المقتدر فيهم أموالاً كثيرة، إلاّ أنّه لم يسعهم، وأنفذ أبا العلاء سعيد بن حَمدان وصافياً البصريّ في خيل عظيمة إلى سُرّ من رأى، وأنفذ أبا بكر محمّد بن ياقوت في ألفَيْ فارس، ومعه الغلمان الحجريّة، إلى المعشوق.
فلمّا وصل مؤنس إلى تكريت أنفذ طلائعه، فلمّا قربوا من المعشوق جعل العسكرُ الذين مع ابن ياقوت يتسلّلون ويهربون إلى بغداد، فلمّا رأى ذلك رجع إلى عُكْبَرا، وسار مؤنس، فتأخّر ابن ياقوت وعسكره، وعادوا إلى بغداد، فنزل مؤنس بباب الشّمّاسيّة ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم، واجتهد المقتدر بابن خاله هارون بن غريب ليخرج، فلم يفعل، وقال: أخاف من عسكري، فإنّ بعضهم أصحاب مؤنس، وبعضهم قد انهزم أمس من مرداويج، فأخاف أن يسلّموني وينهزموا عنّي؛ فأنفذ إليه الوزير، فلم يزل به حتّى أخرجه، وأشاروا على المقتدر بإخراج المال منه ومن والدته ليرضى الجند، ومتى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرّقوا عنه واضطرّ إلى الهرب؛ فقال: لم يبق ولا لوالدتي جهة شيء.
وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط، ويكاتب العساكر من جهة البصرة، والأهواز، وفارس، وكرمان، وغيرها، ويترك بغداد لمؤنس إلى أن يجتمع عليه العساكر، ويعود إلى قتاله، فردّه ابن ياقوت عن ذلك، وزيّن له اللقاء، وقوّى نفسه بأنّ القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه، فرجع إلى قوله وهو كاره.
ثم أشار عليه بحضور الحرب، فخرج وهو كاره، وبين يديه الفقهاء، والقراء معهم المصاحف مشهورة، وعليه البردة، والناس حوله، فوقف على تلّ عالٍ بعيد عن المعركة، فأرسل قوّاد أصحابه يسألونه التقدّم مرّة بعد أخرى، وهو واقف، فلمّا ألحّوا عليه تقدّم من موضعه، فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم، وكان قد أمر فنودي: مَن جاء بأسير فله عشرة دنانير، ومَن جاء برأس فله خمسة دنانير، فلمّا انهزم أصحابه لقيه عليُّ بن بُليق، وهو من أصحاب مؤنس، فترجّل وقبّل الأرض وقال له: إلى أين تمضي؟ ارجع، فلعن الله من أشار عليك بالحضور! فأراد الرجوع، فلقيه قوم من المغاربة والبربر، فتركه عليٌّ معهم وسار عنه، فشهروا عليه سيوفهم، فقال: ويحكم أنا الخليفة! فقالوا: قد عرفناك يا سِفْلَةُ، أنت خليفة إبليس، تبذل في كلّ رأس خمسة دنانير، وفي كلّ أسير عشرة دنانير! وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم، فقيل إنّ عليَّ بن بليق غمز بعضهم فقتله.
وكان المقتدر ثقيل البدن، عظيم الجثّة، فلمّا قتلوه رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبّرون ويلعنونه، وأخذوا جميع ما عليه حتّى سراويله، وتركوه مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل من الأكرة، فستره بحشيش، ثم حفر له موضعه، ودُفن، وعُفي قبره.
وكان مؤنس في الراشديّة لم يشهد الحرب، فلمّا حُمل رأس المقتدر إليه بكى، ولطم وجهه ورأسه، وقال: يا مفسدون! ما هكذا أوصيتُكم؛ وقال: قتلتموه، وكان هذا آخر أمره، والله لنُقتَلنّ كلّنا، وأقلّ ما في الأمر أنّكم تُظهرون أنّكم قتلتموه خطأ، ولم تعرفوه.
وتقدّم مؤنس إلى الشّمّاسيّة، وأنفذ إلى دار الخليفة مَن يمنعها من النهب، ومضى عبد الواحد بن المقتدر، وهارون بن غريب، ومحمّد بن ياقوت، وابنا رائق إلى المدائن، وكان ما فعله مؤنس سبباً لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر لهم على بالٍ، وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة حتّى صار الأمر إلى ما نحكيه.
على أن المقتدر أهمل من أحوال الخلافة كثيراً، وحكّم فيها النساء والخدم، وفرّط في الأموال، وعزل من الوزراء وولّى ممّا أوجب طمع أصحاب الأطراف والنوّاب، وخروجهم عن الطاعة.
وكان جملة ما أخرجه من الأموال، تبذيراً وتضييعاً في غير وجه، نيِّفاً وسبعين ألف ألف دينار، سوى ما أنفقه في الوجوه الواجبة؛ وإذا اعتبرت أحوال الخلافة في أيّامه وأيّام أخيه المكتفي ووالده المعتضد، رأيت بينهم تفاوتاً بعيداً، وكانت مدّة خلافته أربعاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وستّة عشر يوماً؛ وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة ونحواً من شهرين.

.ذكر خلافة القاهر بالله:

لّما قُتل المقتدر بالله عظم قتله على مؤنس، وقال: الرأي أن ننصِّب ولده أبا العبّاس أحمد في الخلافة، فإنّه تربيتي، وهو صبيّ عاقل، وفيه دين وكرم، ووفاء بما يقول، فإذا جلس في الخلافة سمحت نفس جدّته، والدة المقتدر، وإخوته، وغلمان أبيه ببذل الأموال، ولم ينتطح في قتل المقتدر عنزان؛ فاعترض عليه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النُّوبختيُّ وقال: بعد الكدّ والتعب استرحنا من خليفة له أمّ، وخالة، وخدم يدبّرونه، فنعود إلى تلك الحال! والله لا نرضى إلاّ برجل كامل، يدبّر نفسه، ويدبّرنا. وما زال حتّى ردّ مؤنساً عن رأيه، وذكر له أبو منصور محمّد بن المعتضد، فأجابه مؤنس إلى ذلك، وكان النُّوبختيُّ في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإن القاهر قتله، كما نذكره {وَعَسَى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ} البقرة: 216.
وأمر مؤنس بإحضار محمّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافة لليلَتين بقيتا من شوّال، ولقّبوه القاهر بالله، وكان مؤنس كارهاً لخلافته، والبيعة له، ويقول: إنّني عارف بشرّه، وسوء نيّته، ولكن لا حيلة.
ولّما بويع استحْلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بُلَيق، ولعلّي بن بليق، وأخذوا خطّة بذلك، واستقرّت الخلافة له، وبايعه الناس، واستوزر أبا عليّ بن مُقلة، وكان بفارس، فاستقدمه، ووزَر له، واستحجب القاهرُ عليَّ بن بُلَيق، وتشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر من أولاد المقتدر وحُرَمه، وبمناظرة والدة المقتدر، وكانت مريضة قد ابتدأ بها الاستسقاء، وقد زاد مرضها بقتل ابنها، ولّما سمعت أنّه بقي مكشوف العورة جزعت جزعاً شديداً، وامتنعت عن المأكول والمشروب حتّى كادت تهلك، فوعظها النساء حتّى أكلت شيئاً يسيراً من الخبز والملح.
ثمّ أحضرها القاهر عنده، وسألها عن مالها، فاعترفت له بما عندها من المَصُوغ والثياب، ولم تعترف بشيء من المال والجوهر، فضربها أشدّ ما يكون من الضرب، وعلّقها برجلها، وضرب المواضع الغامضة من بدنها، فحلفت أنّها لا تملك غير ما أطلعته عليه، وقالت: لو كان عندي مال لما أسلمتُ ولدي للقتل؛ ولم تعترف بشيء.
وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه، وأخرج القاهر والدة المقتدر لتُشهد على نفسها القضاة والعدول بأنّها قد حلّت أوقافها، ووكّلت في بيعها، فامتنعت عن ذلك، وقالت: قد أُوقفها على أبواب البرّ والقرب بمكّة والمدينة والثغور، وعلى الضعفى والمساكين، ولا أستحلّ حلّها ولا بيعها، وإنّما أوكل على بيع أملاكي.
فلمّا علم القاهر بذلك أحضر القاضي والعدول، وأشهدهم على نفسه أنّه قد حلّ وقوفها جميعها، ووكّل في بيعها، فبيع ذلك جميعه مع غيره، واشتراه الجند من أرزاقهم؛ وتقدّم القاهر بكبس الدور التي سُعي إليه أنّه اختفى فيها ولد المقتدر، فلم يزل كذلك إلى أن وجدوا منهم أبا العبّاس الراضي، وهارون، وعليّاً، والعبّاس، وإبراهيم، والفضل، فحُملوا إلى دار الخليفة، فصودروا على مالٍ كثير، وسلّمهم عليُّ بن بُليق إلى كاتبه الحسن بن هارون، فأحسن صحبتهم.
واستقرّ أبّو عليّ بن مقلة في الوزارة، وعزل وولّى، وقبض على جماعة من العمّال، وقبض على بني البريدي، وعزلهم عن أعمالهم وصادرهم.

.ذكر وصول وشمكير إلى أخيه مرداويج:

وفيها أرسل مرداويج إلى أخيه وشمكير، وهو ببلاد جِيلان، يستدعيه إليه، وكان الرسول بن الجعد، قال: أرسلني مرداويج، وأمرني بالتلطّف لإخراج أخيه وشمكير إليه، فلمّا وصلتُ سألتُ عنه، فدُللتُ عليه، فإذا هو مع جماعة يزرعون الأرزّ، فلمّا رأوني قصدوني وهم حفاة عراة، عليهم سراويلات ملوّنة الخرق، وأكيسة ممزقة، فسلّمتُ عليه، وأبلغتهُ رسالة أخيه، وأعلمتُه بما ملك من البلاد والأموال وغرها، فضرط بفمه في لحية أخيه وقال: إنّه لبس السواد، وخدم المسوِّدة، يعني الخلفاء من بني العبّاس.
فلم أزل أمنّيه وأطمعه حتّى خرج معي، فلمّا بلغنا قَزوين اجتهدتُ به ليلبس السواد، فامتنع ثمّ لبس بَعد الجهد. قال: فرأيتُ من جهله أشياء أستحيي من ذكرها، ثمّ أعطته السعادة ما كان له في الغيب، فصار من أعرف الملوك بتدبير الممالك وسياسة الرعايا.